المرأة في إيران: فيــــلم الدائرة للمخرج العالمي جعفر بناهي
الايراني جعفر بناهي عمل مساعدا للمخرج عباس كيارستمي في فيلمه "عبر أشجار الزيتون". وفي العام التالي أخرج فيلمه الأول "البالونة البيضاء" عن سيناريو كتبه عباس كيارستمي، والذي يتمحور حول طفلة تفقد نقودها ولا تستعيدها الا بعد سلسلة من اللقاءات مع عدد من الافراد، وكان العمل ملفتا وحاز علي العديد من الجوائز في المهرجانات الدولية من بينها جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان، اضافة الي ترشيحه للأوسكار كأفضل فيلم أجنبي.
فيلمه الثاني "المرآة" (1997) ايضا يدور حول طفلة تنتظر امام مدرستها مجيء امها لتأخذها الى البيت، لكن الام لا تأتي فتحاول ان تعود الي البيت بنفسها، وعندئذ يتضح ان الصغيرة مجرد ممثلة سينمائية ترفض ان تستمر في تأدية دورها.. وعبر هذا الاطار، الفيلم داخل الفيلم، يستخدم المخرج الطفلة كمجاز، معبرا عن فكرة تمرد المرأة ضد الدور المرسوم لها في الحياة الايرانية.
أما فيلمه الثالث "الدائرة"(2000) والذي تولي بناهي انتاجه ومونتاجه والمشاركة في كتابته، فقد واجه معارضة رقابية علي السيناريو أولا ثم على عرض الفيلم، لكن بناهي نجح في تسريب نسخة منه الي مهرجان فينيسيا حيث فاز بجائزة المهرجان الكبري. في هذا الفيلم (الدائرة) يتعرض المخرج بناهي - بجرأة وشجاعة - الي وضع المرأة وما تعانيه من قمع وكبح في المجتمع الايراني المحافظ، وذلك من خلال ثلاث نساء هاربات من السجن، احداهن تسعى الي اجراء عملية اجهاض لكن لا أحد يساعدها بل يطردها اهلها من البيت، واخرى ترغب في العودة الي بلدتها الصغيرة لكنها لا تملك نقودا لشراء تذكرة الباص، والثالثة تحاول مساعدتها وتوفر لها المبلغ، غير ان الرقابة المشددة التي تمارسها الشرطة تحول دون مغادرتها وينتهي الفيلم بالنسوة في الزنزانة.
في مجتمع ذكوري، محافظ، يوجه نظرة عدائية وشهوانية الي المرأة، وبالذات اذا كانت وحيدة وعازبة، فانها لا تشعر بالامان والاحترام.. بدون رجل، "لا تستطيعين ان تذهبي الي أي مكان" تقول احداهن للاخرى محذرة.. فلا الحجاب ولا الشادور - الذي يخفي الجسد - قادر علي حمايتهن من المعاكسات والتحرشات، او حتى منع التحديقات من محاولة اختراق الستر والاغطية في مجتمع كهذا لا تسعى المرأة لأن تكون بطلة، بل تناضل فحسب من اجل البقاء، من اجل نيل بعض الحرية في ممارسة حياتها والتعبير عن افكارها كما تشتهي لا كما يريد الاخرون. لذلك نجد ان النسوة، في الفيلم مذعورات على الدوام يحدقن في ما يحيط بهن في شك وحيرة، او يتوارين عند المنعطفات وفي الزوايا لتفادي رؤيتهن. الحجاب والشادور يساعد في اخفائهن في جعلهن غير منظورات، غير مميزات وغالبا ما ينظرن الي المحيط من خلال النوافذ او خلف القضبان او من زوايا المباني ونظرا لاحساسهن الحاد بالضعف والعجز والعزلة والتهميش فانهن يعتمدن علي التضامن فيما بينهن ولا يجدن خيارا آخر غير التعويل علي اهواء ونزوات الرجال وما يبدونه احيانا من تعاطف عرضي.
الفيلم يوظف بحث الشخصيات الرئيسية عن الامان والفرح والخلاص من اجل تقديم تصوير مرهف ونابض بالحياة للمدينة بمختلف مواقعها وخاصياتها. المدينة - طهران - مكان ضاج، مخيف، عديم الشفقة مدينة يحكمها الرجال، يهيمن عليها الرجال وفي عالم كهذا تعي المرأة دورها ومكانها في الهامش مبعدة خائفة، ومدركة لما يحيط بها من استبداد وتحكم وخطر داهم يمكن ان يباغتها في اية لحظة. اغلب احداث الفيلم تدور في شوارع طهران في مبانيها العامة والخاصة اذ لا مكان للشخصيات الرئيسة غير شوارع وطرقات المدينة.. هذه الشوارع التي هي ملاذ ومصيدة في آن، امكنة تحمي وتهدد في آن، مواقع للاتصال والتشتت معا، للحرية والاحتجاز معا. يقول المخرج جعفر بناهي: في العديد من المجتمعات، النساء هن الفئات الاكثر حرمانا وتجريدا من الحقوق حريتهن محدودة جدا الى حد انهن يظهرن كما لو انهن يعشن في سجن كبير وهذا لا ينطبق فقط علي طبقة معينة من النساء بل ينطبق علي الجميع.. كما لو ان كل امرأة تتبادل الامكنة مع الاخريات في دائرة واحدة. وربما لهذا السبب لا يحاول الفيلم ان يوضح او يفسر بعض الامور الاساسية التي تتصل بعلاقة النسوة بالسلطات، فالتهم الاصلية الموجهة لهن او الاسباب التي دعت الي سجنهن هي غير محددة بل تشير الي نفسها علي مستوي الايحاء والتلميح كما ان المعلومات التي تتصل بالسيرة الذاتية لكل منهن هي ضئيلة وشحيحة، كذلك نحن لا نعرف الا القليل جدا عن ماضي كل شخصية ونواياها واهدافها وخططها للمستقبل ورغباتها الراهنة او المؤجلة او المكبوحة. بإغفال الفيلم لمثل هذه التفسيرات والشروحات، على نحو مقصود فان المخرج يؤكد علي فكرته التي اشرنا اليها، اي انه يصور فئة مقموعة لأفراد مقموعين، ويريد منا أن نقبل ونفهم الشخصيات النسائية كنماذج أولية لا كشخصيات نمطية، ورصدهن لحالة وجودية وليس كحالة سيكولوجية.. بمعنى انه يدعونا الي التأمل وليس التماهي او التطابق معهن عاطفيا.
الفيلم يتجنب الحالات الوجدانية او العاطفية المفرطة عبر تطويره الصادق الواقعي لمعاناة شخصياته. يبدأ الفيلم وينتهي بلقطات طويلة، تستغرق كل منها ثلاث دقائق تقريبا حيث الكاميرا تتحرك دون انقطاع ففي البداية تتنقل الكاميرا المحمولة باليد في حركة متسارعة عبر اروقة المستشفي ونزولا عبر لاسلالم وفي النهاية نمكث في الزنزانة والكاميرا تدور في حركة متمهلة انه - مجازيا - انتقال من الضوء (حيث يبدأ الفيل نهارا) الى الظلمة (حيث ينتهي ليلا)، من الامل - أو بصيص - الي اليأس المطبق.
الفيلم يقدم شخصياته واحداثه عبر البناء الدائري الذي يعمق الفكرة الاساسية: النسوة محاصرات في دائرة ضارية ووحشية من الفقر واليأس والقهر والتهميش.. وعبر هذا البناء ننتقل بسلاسة ورشاقة من شخصية الي اخري، من حياة الي اخري، من قصة الي اخري، وهي قصص ناقصة، غير مكتملة، تترك المتفرج في حيرة وقلق إزاء هذا الغموض وعدم الاكتمال، اذ لا يجد اشباعا لفضوله ولا لإرضاء رغبته في معرفة المزيد واستيعاب كافة التفاصيل. أهمية الفيلم لا تكمن فقط في التعامل الجريء والمباشر مع المشكلات الاجتماعية وقضايا الواقع الاساسية، بل ايضا في قدرة المخرج علي خلق عمل فني يتناسج فيه الشكل والمضمون علي نحو تام.. حيث الكاميرا نفسها في تصويرها للمسارات الدائرية للشخصيات تعزز الدائرة التي ينسجها القدر حول الشخصيات النسائية وبداخلها ينصب الشراك لهن.
كما في افلامه السابقة، يعتمد جعفر بناهي علي حركات الكاميرا الغنائية التي غالبا ما تكون محمولة باليد، وعلى ممثلين غير محترفين (كما هو الحال مع عدد من مخرجي السينما الايرانية)، ودمج التقنيات السردية مع التقنيات الوثائقية او الارتجالية. وكما في اغلب افلام عباس كيارستمي، هذا الفيلم لا يعتمد علي الموسيقي (المؤلفة خصيصا للفيلم) بل علي الأصوات والجلبة التي يحدثها الموقع والتي تدور في الخلفية (ازدحام السير، الحركة المتواصلة للسيارات، صفارات الانذار، ضوضاء الآلات، ضجيج الأماكن).. اضافة الي الحوارات الموجزة ولحظات الصمت المتوترة (النسوة قليلات الكلام ويتكلمن عند الاقتضاء).. ان الاصوات وصخب الامكنة توحي بالخطر واللا مبالاة التي تحيط بالنسوة الهاربات. في النهاية عندما يحل الظلام والنسوة داخل الزنزانة، يسع المجاز الذي يريد الفيلم ان ينقله الينا: النسوة يعشن في سجن كبير، والزنزانة مجرد حيز صغير من ذلك السجن.. والحصار يكون محكما عندما تصبح الشاشة سوداء - بلون الحجاب - ونمسع صوت باب الزنزانة ينغلق بعنف
.
المصدر: منتديات أزاهير الأدبية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق